بالأمس القريب كان بإحدى القرى يتصفح مخطوطا، هو عبارة عن ختمة للقرآن الكريم متكونة من 30 جزءا كانت موضوعة في صندوق اُعِدّ خصيصا لذلك،
كم هي أنيقة هذه الختمة، وكم هو باذخ تسفيرها: تجليد تونسي مميز بتأثيرات عثمانية واضحة، ثلاثة اُطُرٍ متوازية توشح غلافا من الجلد البُنّي المزخرف، جلد صقيل تتوسطه رصيعة محورية تتفرع عنها تعليقتان منفذتان عموديا بالزخرفة ذاتها.
بحث عن نص التحبيس: إسم الناسخ وتاريخ النسخ وإسم المُحبّس وتاريخ التحبيس ومُحرر الحُبسية في 29 جزءا، كل جزء منها يتكون من حزبين، ولكن عبثا، فقد نزعت من الأجزاء كلها ورقة المستهل والغاشية اي الورقة الأولى والأخيرة،
ساورته بعض الشكوك لأن الأجداد حينما كانوا يُحبّسون المصاحف أو الأختام أو غير ذلك من الكتب على الجوامع والمدارس كانوا يفعلون ذلك عن طريق العدول؟! ولا يوازي حرصهم على نص التحبيس سوى حرصهم على نص الوديعة، وهل يكون تحبيس بلا وديعة ورغبة في كسب الثواب والأجر.
لا وديعة ولا نص تحبيس!!!
أخيرا عثر على نصّ التحبيس في جزء واحد،
بقي النص لأنه كان مكتوبا على وجه ورقة إذا نُزعت نُزع معها جزء من النص القرآني،
هذه مفاجأة اولى.
المفاجأة الثانية أذهلته حقا:
1. المُِحبّسة محبوبة بنت الشيخ محمد النوري:
إحدى السيدات المنحدرات من واحدة من عائلات إحدى المدن التونسية العريقة، وكريمة الشيخ محمد النوري بن حسين أحد كبار أئمة الجامع الكبير المعقل التاريخي للمذهب المالكي.
2. محرر الحُبُسية هو العدل حمادي النوري
وهو شقيقها، وجليسه عمر بن صالح، أحد قدماء عدول البلد.
3. المُحبّس عليه: وهنا الإشكال الكبير
“الزاوية الرحمانية الكائنة بحومة سيدي بوعنبة داخل باب ابي طاعة من البلد حيث ضريح الشيخ المتولي ابي عبد الله محمد بن أحمد القسطلّي”.
هكذا جاء حرفيا في نص التحبيس، أي زاوية القسطلي بتلك المدينة الأم ؟؟؟ !!!
4 تاريخ التحبيس:
أواسط شهر ربيع الثاني سنة 1286 للهجرة/ جوان 1869 أي أن الختمة، وهي كاملة جاملة، عمرها لا يقل عن 152 عاما. ظل صامتا، إلا من صدى صوت بداخله كان يردد:
من رحّل هذه الختمة من المنشأة الروحية الأولى التي كُتبت من أجلها؟ وما الذي رحّلها؟
وفي أية ظروف؟
أهي الحرب و” الهجّة” والمطر أم أيادي البشر؟
لم يجد وصفا دقيقا يمكن أن ينعت به هذا “الترحيل”.
“الترحيل” يعود إلى تاريخ قديم والدليل على ذلك وجود إسم كتب بخط عتيق هو إسم من انتقلت إليه ملكية هذه الختمة، بغير وجه حق طبعا لأن ما يُحبّس على مؤسسة روحية أو علمية لا يقع التفويت فيه بأي وجه من الوجوه حتى وإن كان على وجه الهدية، هذا المالك إسمه بوجمعة بن الحاج حسين بن الحاج عبدة بن المؤدب، أحد مشايخ التراب.
لغز؟
إسم السيدة القائمة بالتحبيس لم يكن غريبا عنه، أحس بألفة إزاءه، ألفةً ما كان لها أن تدعه على الحياد،،، محبوبة نورية؟ محبوبة نورية؟ محبوبة نورية؟
لاح له الخيط الرابط فجأة، ولاحت له سلسلة السيدات الفضليات اللاتي ارتبطت بأسمائهن الأوقاف العلمية والروحية: من فاطمة الفهرية، إلى عزيزة عثمانة، إلى عائشة اليوسفية،،
وتذكر لحبيبة نوريّة أنّها حبّست حوالي خمسين (50) هكتارا، على ” ستة(6) طلبة من حّمّلة القرآن العظيم منهم خمسة حزابة والسادس شيخ عليهم يقرؤون كل يوم حزبين بزاوية جدها”.
وعادت به الذاكرة إلى التسآل من جديد:
هل كان دور المرأة، تاريخيا، متلاشيا في فعاليات مجتمعها؟ أم كان لها دور ما ضمن هذه الفعاليات؟
ما طبيعة هذا الدور ؟ وما هي أهميته وحدوده؟
وهل اقتصر على الاستهلاك أم تجاوزه إلى إنشاء المؤسسات والإنفاق عليها واختصاصها بأوقاف تتفرّد بها وربما تجاوز ذلك كله إلى أدوار أخرى حجبتها الثقافة الذكورية؟
رحم الله الجدّة محبوبة نورية ومثيلاتها. جدّات بلا مثيلات.
د. زهير بن يوسف